🌫️ الهستيريا العميقة: حين تصرخ النفس من الأعماق

0



 

مقال تأملي يستكشف الهستيريا كصرخة خفية من أعماق النفس، تكشف هشاشتنا وحنيننا للفهم، وتحوّل الألم إلى بحث عن معنى واحتواء إنساني.

🌿 مقدمة

ثمة لحظات في حياة الإنسان يبدو فيها كل شيء هادئًا في الخارج، بينما في الداخل تعصف العواصف. نبتسم، نتحاور، نعيش كما لو أن النظام قائم، لكن شيئًا ما يضطرب في أعماقنا، شيء لا يجد طريقه إلى اللغة.
هذه الهستيريا العميقة، ليست مجرد مرض أو اضطراب كما أراد الطب أن يسميها، بل هي صرخة الروح حين يُمنع عنها الكلام، ويُحاصر فيها الألم في صمتٍ نبيلٍ وموجع.

في كتابه Hystérie de profondeur (الهستيريا العميقة)، يحاول كريستوفر بولاس أن يحرر المفهوم من السطحية الطبية، ليعيده إلى مجاله الأصلي: الإنسان ككائن يتألم، ويتوق إلى أن يُفهَم.


🌀 ما وراء الأعراض: الحكاية المخفية في الجسد

ليست الهستيريا مجرد نوبات أو تمثيلات جسدية، بل لغة بديلة يتكلم بها اللاوعي حين يعجز اللسان عن التعبير.
فكل رعشة، وكل ألم غامض، وكل تصرف غير مفسَّر، يحمل في طياته رسالة خفية من باطن النفس.
بولاس يرى أن ما نسميه “نوبة هستيرية” ليس سوى دراما داخلية تبحث عن شاهد.
كأن الجسد نفسه يتحول إلى مسرح، تعرض فيه الذات مشهدها الأخير قبل الانهيار، آملةً أن يفهم أحد ما القصة قبل أن تُطوى الستارة.

كم مرة صمتنا بدل أن نصرخ؟ كم مرة ادّعينا القوة ونحن نتآكل؟
الهستيريا هي تلك اللحظة التي تقول فيها النفس: لقد كتمت كثيرًا، فدعوني أتحدث بغير الكلمات.


🔍 من فرويد إلى بولاس: تحوّل النظرة

لقد حاول فرويد تفسير الهستيريا بوصفها نتاجًا للصراع بين الرغبة والمنع، بين الوعي واللاوعي.
لكن بولاس، بعد قرن من الزمان، أضاف بُعدًا أكثر حنانًا وإنسانية: إنها ليست صراعًا مع الرغبة فقط، بل مع غياب الحنان، مع الجرح الأصلي الذي تركته الأم حين لم تُصغِ بما يكفي.
فالطفل الذي لم يُفهَم، يكبر وفي داخله فراغ يتكلم بالأعراض، لا بالكلمات.
وهكذا، تصبح الهستيريا مرآةً لطفولة لم تكتمل، لاحتياج لم يُشبَع، ولعلاقة لم تجد شكلها المتوازن بين الاحتواء والاستقلال.


🌊 الهستيريا الحديثة: صراخ بين الصور

في زمننا المعاصر، لم تختفِ الهستيريا، بل تبدّلت أقنعتها.
لم تعد تلك النوبات الصاخبة كما وصفتها كتب الطب القديمة، بل تحوّلت إلى هستيريا رقمية، اجتماعية، وجودية.
نبحث عن الاعتراف عبر الشاشات، نعرض جراحنا في صيغ جميلة، نحكي عن الألم في منشورات محسوبة…
لكن الصرخة ذاتها لا تزال موجودة، تخرج عبر العين المتعبة، أو الرسالة التي لم تُرسل، أو الابتسامة التي تخفي خيبة قديمة.

الهستيريا اليوم ليست مرضًا بقدر ما هي مرآة لعالم مريض باللامبالاة.
هي احتجاج الروح على عصرٍ يطالبنا أن نبدو بخير دائمًا، بينما نحن في الحقيقة نتفتت من الداخل.


🌹 نحو فهم أكثر رحمة

ربما لا نحتاج أن “نُشخّص” الهستيريا، بل أن نُصغي إليها.
أن نفهمها لا كخلل، بل كنداء، كطريقة أخرى لتقول النفس: أنا هنا، انظر إليّ، افهمني قبل أن أنطفئ.
فكل إنسان يحمل في أعماقه “هستيريًّا صغيرًا”،
طفلاً خائفًا يختبئ خلف قناع النضج،
وروحًا عطشى للاحتواء، تبحث عن من يسمع دون أن يحكم، ويقترب دون أن يغزو.


🌺 خاتمة

إن الهستيريا العميقة ليست سوى وجهٍ آخر للحساسية الإنسانية المفرطة،
ذلك الجسر الرفيع بين الألم والرغبة في التواصل، بين الجرح والأمل.
وحين نكفّ عن النظر إليها كاضطراب، ونبدأ في رؤيتها كـ حكاية عن المعنى المفقود في حياة الإنسان الحديث،
سنكتشف أن الهستيريا ليست نهاية الاتزان، بل ربما بداية وعي جديد بالذات.

إنها تذكّرنا دومًا أن الإنسان لا يشفى بالكتمان، بل بالاعتراف.
ولا يتحرر بالصراخ، بل بالإنصات لما يقوله صمته.


incentivize, art I love, My health

إرسال تعليق

0تعليقات

يرجى عدم نشر تعليقات غير مرغوب فيها تنشر الكراهية والكراهية تجاه الأفراد أو الشعوب أو التمييز على أساس العرق أو الجنس أو الدين أو الانتماء. سيتم إزالتها مباشرة بعد المراجعة، والمدونة ليست مسؤولة عن مثل هذه التعليقات.
يرجى تجنب تضمين عناوين URL لموقع الويب في تعليقاتك.
سأكون ممتنًا لك إذا احترمت هذه الإرشادات، ونرحب بإبداء تعليقات حرة وعادلة وموضوعية.
Please do not post unwanted comments that spread hatred and hatred toward individuals or peoples or discrimination based on race, gender, religion, or affiliation. They will be removed immediately after review, and the blog is not responsible for such comments.
Please avoid including website URLs in your comments.
I would be grateful to you if you respect these guidelines, and you are welcome to make free, fair and objective comments.

إرسال تعليق (0)

#buttons=(Ok, Go it!) #days=(20)

Our website uses cookies to enhance your experience. Check Now
Ok, Go it!